مقالات

روح الشعوب … روح المقاومة  الأستاذ /فتحي عثمان

الخصوم والأعداء:

اقتضى ابتداء الحديث عن الفرق بين المعارضة والمقاومة توصيل الحديث إلى منتهاه، عسى أن ينال الكلام المرام. وفي بيان الفرق اليوم بين المعارضة والمقاومة، مرة أخرى، نستحضر الثنائيات المتضادة والكاشفة إذ بضدها تتميز الأشياء.

نمت لدي قناعة، ما لبث تحولت إلى شبه يقين، مؤداه أن المناضل الراحل أحمد ناصر، لو تسنى له حكم ارتريا لقاد فيها حكما ديمقراطيا يحترم حقوق الانسان ويطبق القانون وتسود فيه العدالة؛ وذلك لعدة أسباب: فالرجل، رحمه الله، كان مقاوما للاستعمار، وقيمه السياسية التي ناضل من أجلها تناهض الاستعمار والاستعلاء معا، ولم يتراخى في النضال من أجل قناعاته وحقوق شعبه. دفع الرجل ثمن نضاله نفيا واغترابا: مجازا وحقيقة. فالمستبد الذي نفاه من الأرض التي قاتل من أجلها لم يتردد في توجيه طلقة الموت إلى صدره فعلا في الثمانينات ومجازا في التسعينات وبعدها. إذن علاقة أحمد ناصر مع الحاكم المستبد في اسمرا لم تكن علاقة يحكمها مفهوم المعارضة: أي علاقة خصوم سياسيين؛ بل هي علاقة عداء، تأكيدا، من وجهة نظر المستبد، لأن كلمة الخصم في اللغة الإنجليزية “اوبونينت” تأتي من الجذر اللاتيني الذي يفيد معنى مقترِح “بكسر الراء” وهو الذي يتقدم باقتراح في مناقشة وليس في معركة. وأحمد ناصر لم يكن خصما سياسيا في سياق معارضة لإسياس افورقي، بل عدوا له ” على الأقل من وجهة نظري” ومن وجهة نظر اسياس أيضا، لأنه ناصبه العداء وليس التعارض. ولأن كلاهما ينحاز إلى قيم متعادية بالضرورة: وهي قيم الخير مقابل قيم الشر. وتأسيسا على أرضية هذا العداء فإن المقاومة ضد الاستبداد، هي مقاومة هدفها الاجتثاث؛ إذ لا يمكن أن يتساوى المناضل والمستبد: فكلاهما ينفي الآخر، وليس يخاصمه بحسب تسوية سياسية. وهذا العداء هو الذي جعل المقاوم أحمد ناصر يدفن في بلاد الجليد وليس في الأرض التي ناضل من أجلها.

فالمعارضة هي خصومة سياسية، بينما المقاومة مبدأ استئصال. فبوريس جونسون لا يستطيع نفي جيرمي كوربن، ليس لأن الأعراف الديمقراطية لا تقبل ذلك فقط؛ بل لأن العلاقة بينهما ليست علاقة عداء بل هي علاقة خصومة سياسية في سياق معارضة وليس سياق نفي واجتثاث حسب قواعد المقاومة. إذن علاقات العداء هي المحدد في حالة المقاومة؛ بينما الخصومة السياسية هي المحدد في حالة المعارضة.

نمت لدي قناعة، ما لبث تحولت إلى شبه يقين، مؤداه أن المناضل الراحل أحمد ناصر، لو تسنى له حكم ارتريا لقاد فيها حكما ديمقراطيا يحترم حقوق الانسان ويطبق القانون وتسود فيه العدالة؛ وذلك لعدة أسباب: فالرجل، رحمه الله، كان مقاوما للاستعمار، وقيمه السياسية التي ناضل من أجلها تناهض الاستعمار والاستعلاء معا، ولم يتراخى في النضال من أجل قناعاته وحقوق شعبه. دفع الرجل ثمن نضاله نفيا واغترابا

التسوية والتضحية:

لماذا يحتفي الشعب الارتري ببطولة عواتي، ومفاخر العمليات الفدائية أثناء فترة النضال المسلح، ومجموعة الخمس عشر الإصلاحية ومفخرة مدرسة الضياء الإسلامية؟ ببساطة لأنها هذه المفاخر والمآثر هي من أعمال “المقاومة” وليست من أعمال المعارضة. وما يميزها عن أعمال المعارضة هو أن مفهوم التضحية يحتل القلب منها: أبطال هذه المآثر الوطنية وقفوا ضد الطغيان بالرأي قبل السلاح. بينما تعتمد المعارضة على مكسب ” التسوية السياسية” كانتصار كبير تضع المقاومة ” التضحية” على رأس أولوياتها وتعرف أنه ثمن التغيير. وهذا فرق حاسم، ويستطيع لوحده أن يرجح كفة العمل المقاوم. وبينما تتم التسويات السياسية في المؤتمرات تبذل التضحيات على أرض الواقع: لذلك تركن المعارضة إلى تقليد المؤتمرات كإرث سياسي، وليس على التضحيات لأن التضحيات سِمة المقاومة والتسويات سِمة المعارضة. وتقوم التسوية على نوع من أنواع القبول بالآخر ” كما هو الحال في الديمقراطيات البرلمانية” ولكن العداء بين المقاومة والاستبداد لا يقوم على التسوية بل على التضحية لأن أساس العلاقة ليس الخصومة السياسية بل هو العداء السافر وغير المخاتل.

الاسم والفعل:

هل يعني تغيير الاسم تغيير الفعل؟ أي إذا غيرنا الاسم من معارضة إلى مقاومة هل يتغير الحال؟ الحقيقة أنك لو ألبست الضبع فروة الأسد فإنه لا يتحول إلى سبع. تغيير اسم المعارضة بين ليلة وضحاها إلى مقاومة لا يعني أنك نقلت إليها الروح. فليست الأسماء هي التي تميز بل الأفعال. على سبيل المثال: العمل المناوئ ضد الاستبداد يسمى باللغة التجرينية ” تقاومو” والفاعل ” تقاوماي” ولكن هل هذا غير واقع المعارضة الناطقة بالتجرينية ضد حاكم اسمرا في الثلاثين عاما الماضية؟ العبرة ليست في الاسم والمسمى بل هي في الجوهر وفي الروح.

المستعمر والمستبد:

يحصر البعض مفهوم المقاومة في العمل العسكري المسلح وضد المستعمر تحديدا. من يظن ذلك كيف يفسر مجزرة معوقي حرب التحرير في ماي حبار، وكيف يفسر مقاومة مجموعة الخمس عشر، وكيف يفسر انتفاضة مدرسة الضياء الإسلامية، وعلى مستوى العالم كيف يفسر نضال المهاتما غاندي ضد بريطانيا وكيف يفسر نضال مارتن لوثر كنغ ومالكوم اكس من أجل الحقوق المدنية للسود. ما عدا مقاومة غاندي، الذي لم يحمل كلاشنكوف، كانت ضد بريطانيا المستعمرة فإن كل البطولات المذكورة كانت ضد سلطات قمعية محلية. ثم أخيرا كيف يفسر صاحب فهم أن المقاومة ضد المستعمر فقط نضال الشعب الكوبي ضد الديكتاتور فولجنسيو باتيستا: هل كان حاكم كوبا الذي قامت ضده الثورة الكوبية ” مستعمرا اجنبيا”، بالقطع لا بل كان حاكما “وطنيا” مستبدا قمع ثورة الطلاب الكوبيين بالحديد والنار مما دفعهم إلى خيار حمل السلاح في جبال السييرا مايسترا. إذن لا يشترط أن يكون الاستبداد “استعمارا” حتى يستحق المقاومة.

في إحدى المرات مثُل أمام قاضي اثيوبي في ارتريا شاب ارتري تم أسره في مواجهة مع قوات العدو الاثيوبي في العاصمة بعد اصابته بجرح بليغ، وبعد انتهاء فترة علاجه في السجن وقف أمام القاضي، فوجده القاضي شابا لم يصل العشرين من العمر، فقال له ” أنت حملت سلاح ضد الدولة وهذه جريمة كبيرة، وعثر على السلاح بحوزتك، والقانون ينص على الحكم عليك بالإعدام، ولكن لأنك صغير في السن فسوف أحكم عليك بالسجن خمس سنوات تخرج بعدها إلى الحياة ويتقوم سلوكك ومسار حياتك” هذا قاضي في محكمة تمثل الاستعمار، وليس قاضي في محاكم ارتريا اليوم.

فهل وقف الشهيد الراحل أحمد شيخ فرس رحمه الله أمام قاضي، أو وقف الشهيد الراحل الحاج موسى محمد نور أمام قاضي، رغم كبر سنهما. ربما لو مثلا أمام سلطة استعمارية لحصلا على محاكمة عادلة: ثم يقال لك بعد هذا العسف المؤسس أن المقاومة ضد الاستعمار فقط.

ألا يدعو هذا الاستبداد إلى المقاومة؟ أم أن لون المستبد يجب أن يكون أبيضا حتى أقاومه؟

الخوف والإرادة السياسية:

هناك إجماع أن ما يحدث في ارتريا ليس مسبوقا على مستوى الفظائع المرتكبة والانتهاكات ووأد الأحلام الوطنية

يعتمد المستبد على الخوف والترهيب، والخوف الذي نعنيه هو الخوف السياسي، والخوف السياسي هو التخويف من أجل مآرب سياسية وعبر أعمال إرهاب سياسية: مثل الإبادة والحرب الأهلية والاعتقالات والقمع والتعذيب بكافة أشكالها. والخوف السياسي بواعثه سياسية، على عكس الخوف الشخصي مثل الخوف من المرتفعات أو الزواحف أو خيالات محددة. علاج الخوف الشخصي هو الشجاعة والاحتمال في مواجهة الأخطار. بينما يعالج الخوف السياسي ب “خلق الإرادة السياسة للمقاومة”. فإذا كانت دعاوى تسفاظيون للكراهية تثير الخوف السياسي من الإبادة الجماعية ضد المسلمين: فإن ذلك مدعاة في نفس الوقت إلى توفر الإرادة السياسية التي هي روح المقاومة ضد الخوف، وهي عصب المقاومة ضد الاستبداد والكراهية. وحدها المقاومة هي التي تخلق الشعور الوطني بالإرادة السياسية ضد الاستبداد: وروح المقاومة ضد المستبد هي دوما تجميع للإرادة السياسية الجمعية ضد المخاوف السياسية. وهذا عمل المقاومة وليس عمل المعارضة.

هناك إجماع أن ما يحدث في ارتريا ليس مسبوقا على مستوى الفظائع المرتكبة والانتهاكات ووأد الأحلام الوطنية، فكيف يمكن مقاومة الظلم في ارتريا “بالاتباع”، أي بالقول إنه لم توجد من قبل مقاومة لحكومة، وأن المقاومة هي ضد المستعمر. وبقدر ما يتفنن حاكم اسمرا في التنكيل بالشعب الارتري فعلي الشعب “ابتداع” مقاومته وعليه ألّايقرأ من صفحات تاريخ الآخرين؛ بل أن يقرأ من صفحات عذابات شعبه التي يمكن أن تلهم وتلهب روح المقاومة.

ومن يزرع الريح يجني العاصفة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق